فان جوخ
في شهر يوليو عام 1890رحل فان جوخ بعد حياة خاطفة كالومض، عاش خلالها وهو يعاني سلسلة من الكوارث والهزائم النفسية حتى وصل إلى حافة الجنون.
بدأ حياته بائعا للوحات في محل جيوبيل بمدينة لاهاي ثم نقل إلى فرع المحل بلندن، وهناك كان فان جوخ ناجحا لآخر مرة في حياته، يرتدي ثيابا أنيقة ويحيا حياة طيبة إلى ان وقع في حب أرسولا ابنة صاحب البيت الذي كان يقطنه التي رفضت الزواج منه بسخرية بالغة وصدمته عاطفيا ليعيش لوثة عقلية، جعلت أصحاب المحل ينقلونه بعيدا عنها إلى فرع باريس، وبكل أسف عاودته الهلاوس الغريبة في عاصمة الفن والنور أيضا، فكان يتكلم عن التجارة باعتبارها سرقة منظمة، ويتشاجر مع الزبائن الذين يشترون أردأ اللوحات بأغلى الأثمان، وكانت النهاية المحتومة بطرده من فروع محل جيوبيل كلها، ليبدأ حياة التخبط في عدة أعمال: بائعا للكتب، مدرسا للغات مقابل الأكل والمأوى، محصلا للمصروفات المدرسية.
وذات صباح حمل فان جوخ امتعته ليعمل في بلدة صغيرة ببلجيكا، وهناك لاحظ الجحيم الذي يعيش فيه أهل البلدة عمال المناجم ويتمثل هذا الجحيم في: انهيار الأرض، تسمم الهواء، انفجار الأنابيب البالية، أمراض الصدر والرئة، بجانب ان الشركة الرأسمالية تبخسهم حقوقهم فلا يحصلون سوى على كوخ متهدم وطعام لا يكاد يقيم الأود، وقد حاول فان جوخ أن يحصل لهم على بعض الحقوق من الشركة كما استأجر على نفقته بيتا يغمره الدفء وجعله منارة يهتدي إليها الجميع للتداوي والتعلم، واستمرت الحياة على هذه الوتيرة حتى حدثت كارثة انفجار أحد المناجم، وهرع الأهالي لانتشال الجثث وانقاذ الضحايا، وهم فان جوخ بحماس إلى مداواة المصابين ومواساة الثكالى حتى اضناه الهزال والحمى، وفي غمرة هذا الأسى ووقف وقد لف جسده بالخيش، والعيون رغم المرض والجوع متعلقة بصمت شفتيه.. ولم يعلق فان جوخ بكلمة واحدة بل راح يردد بينه وبين نفسه: ما من احد يفهمني.. الناس يظنوني مجنونا لأنني اريد أن أكون مخلصا في عملي، وعندما اجتهد لأخفف من آلام الفقراء أطرد تحت شعار انني اثير المتاعب وألطخ الكنيسة بالعار!! لست أدري ما أنا فاعل؟
لم تعد لديه الشجاعة لأن يبدأ من جديد، فراح يسير على غير هدى لا يعرف أين تمضي به قدماه، وليس أمامه سوى أن يتأمل حياة هؤلاء البؤساء ويرسمها بكل مافيها من اسى ومن آلام. كان يرسم، ثم يعرض رسوماته على الفنانين الكبار، وذات يوم صدمه أحد الفنانين ويدعى انطون موف قائلا له: إن رسومك يا فان جوخ رديئة !!
دخل فان جوخ في عدة تجارب عاطفية بائسة،احب ابنة عمه المطلقة لكن والدها طرده من البيت، رحل إلى باريس، وهو يدرك أنه لم تعد له في الحياة سوى معركته مع الفن، فكان لا يحجم عن الخروج في المطر والضباب والعواصف ويستغرق في رسم عشرات اللوحات آملا أن تخرج اللوحة كالطبيعة تماما.. نارية.. حيوية.. متشظية..ممتلئة بحرارة العاطفة..
وفي باريس تعرف على الانطباعيين أمثال: مانيه ورينوارولوتريك، وكان أخوه ثيو بائع اللوحات يتكفل بكل مصروفاته تقريبا ويعمل على بيع لوحاته ، لكنه لم يجد في باريس الطبيعة التي يبحث عنها فرحل إلى بلدةآرل ليعيش تحت الشمس المتوهجة. زاره صديقه جوجان وراحا يعملان معا بحماس ومرح، وفي لحظة طائشة تشاجر الصديقان العنيدان وحاول فان جوخ ان يطعن صديقه بالموس لكنه ارتبك واستدار باكيا..وفجأة بتر اذنه اليسرى وكاد ان يموت من فرط ما نزف من دماء لولا أن هرع به جوجان إلى أقرب مستشفى، وهناك رواية اخرى انه قطع اذنه عامدا كي يهديها الى احدى الساقطات.
دخل فان جوخ إلى مصحة سان ريمي لينسج آخر الخيوط في قصته الحزينة، لقد عاش يعاني الخوف الدائم من شبح الموت الذي يطارده، يتعلق تعلقا لاهثا بالحياة من خلال ديمومة اللوحة وحيويتها، وعلى قدر اندفاعه برغبة دفينة تجاه الموت كانت لديه رغبة أعمق في الهروب.. و مقاومة الموت من خلال بث الحياة والحرارةوالعاطفة في لوحاته الخالدة، إنه ودون وعي منه كان يرسم حياته كلها كلوحة فنية نارية تتعدد فيها الأماكن والوجوه وقصص الحب المريرة ولحظات الإلهام الخاطفة.
هكذا عاش فان جوخ حياة قصيرة ومأساوية (37سنة) ومات فقيرا مغمورا لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة لكن الهوس باعماله جاء بعد موته وبتأثير من احس المأساوي لشخصيته، والذي انعكس على اعماله خاصة في المرحلة الاولى،ومن المعروف انه ينتمي الى المدرسة الانطباعية المتأخرة وتباع لوحاته اليوم بملايين الدولارات وأشهرها «دوار الشمس» و«زهرة الخشاش» والبورتربهات الحزينة التي رسمها لنفسه ولآخرين و تبدو كأنها على حافة الجنون والانهيار النفسي.